بسم الله الرحمن الرحيم
وحملها الإنسان
إن الحمد لله نستغفره ونستعينه ونتوب إليه، ونسأله السداد والرشاد، والعزيمة والقوة، والثبات على الحق، والمضي على الدرب، على صراطٍ مستقيمٍ بينه الله لنا وفصّله.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إنَّ من أهمِّ التكاليف التي أمر الله بها عباده "التفكير"، فقد جعل الله التفكير قوة أنعم بها على الإنسان، وجعلها قوة من قوى الفطرة التي فطر الناس عليها، ليستخدمه الإنسان في الوفاء بالتكاليف الربَّانيَّة التي وضعها الله في مسؤوليات الإنسان التي سيُحاسَب عنها بين يدي الله - سبحانه وتعالى - على ميزان حق في يوم لا ريب فيه: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].
الموت حق، والساعة حق، والبعث حق، ثمَّ إلى جنَّة، أو إلى نار، فالحياة الدنيا هي الفرصة الوحيدة أمام الإنسان ليصلح من شأنه، ويوفيَ بمسؤولياته الربانية، ويستعد للحظة مفارقة الدنيا إلى الدار الآخرة! إلى دار القرار والخلود!.
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون: 99-103].
فمن البداهة والحق أن يقف الإنسان مع نفسه وقفة تأمّل وتفكير ليتساءلَ: لماذا خلقنا الله، وما هي المهمّة التي يريدنا الله أن نوفيها في الحياة الدنيا والتي نحاسَب عنها في الآخرة؟! فالله - سبحانه وتعالى - يقول: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) [المؤمنون: 115-116].
إذن، فهناك مهمة محددة على الإنسان أن يوفيها، فلا بدَّ أن يتساءل ويتفكّر في ذلك، فالفرق كبير بين إنسان يمضي في هذه الحياة الدنيا وهو واع لمهمته ورسالته، وآخر متجاهل لها، وجميعهم سيلقَوْن المصير المحتوم!.
فمن أين نعرف حقيقة هذه المهمة التي يريدها الله أن تتحقق في الحياة الدنيا، فالله أرحم بعباده من أن يكلفهم بأمر لا يعرفونه ولا يبيّن لهم سبيل معرفته؟!
هنالك مصدران يسّرهما الله لعباده هما: الفطرة السليمة التي غرس الله فيها الإيمان والتوحيد وسائر القوى والغرائز والميول، والتي فطر الناس عليها، ثمَّ رسالة الله إلى عباده ليبلّغهم إياها الأنبياء والمرسلون، حيث بعث الله في كلِّ أمة رسولاً يبلّغ ويتعهّد، وختمهم بالرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً للعالمين.
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [النحل: 36].
(مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [الأحزاب: 40].
ولقد بيّن الله - سبحانه وتعالى - هذه المهمة الموكولة للإنسان في رسالاته كلها ومع رسله، وبيّنها كذلك وفصّلها في الرسالة الخاتمة، في منهاج الله - قرآناً وسنَّة ولغة عربية -، فلقد أوجز منهاج الله هذه المهمة بأربعة مصطلحات، كل مصطلح يصور المهمة من ناحية، لتتكامل الصورة بالنواحي الأربع، ثمَّ فصّلها تفصيلاً كاملاً بعد ذلك، فالمصطلحات الأربعة هي: العبادة، الأمانة، الخلافة، العمارة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].
(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب: 72].
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 30].
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود: 61].
فلا يقصد بالعبادة في الآية الكريمة الشعائرُ فقط، ولكنها كلُّ عمل يقوم به المسلم خالصاً لوجه الله يريد به نصرة دين الله والتزامه، ويكون خاضعاً لشرع الله، حتى تكون العبادة بمعناها العام صورة للمهمة التي خُلِقَ الإنسان ليوفي بها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " العبادة اسم جامع لكلِّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال "، أما الشعائر فهي مع الشهادتين الأركان الخمسة التي تقوم عليها سائر التكاليف الربانية، والتي لا يقبل عمل لا يقوم عليها، أما العمارة فهي عمارة الأرض بالإيمان وثمراته في الواقع البشري، ثمراته الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية والأدبية وسائر الميادين، ليكون معنى العمارة صورة من صور المهمة الملقاة على عاتق الإنسان، وأما الخلافة في هذه الآية فهي أن ينفّذ الإنسان أمر الله في الأرض حتى يسود شرعه ودينه، فمن هذه المصطلحات الأربعة تتكامل صورة المهمة التي تفصلها آيات أخرى كثيرة وأحاديث شريفة، ولنأخذ قبساتٍ من كتاب الله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153].
(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 3].
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء: 58].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء: 135].
فمن هذه المصطلحات الأربعة ومن هذه الآيات يتضح لنا أنَّ المهمّة التي خلق الله الإنسان ليوفي بها في هذه الحياة الدنيا لا تتحقق إلا بممارسة منهاج الله - قرآناً وسنَّة ولغة عربية -، وهذه الممارسة الإيمانية تعني القيام بالتكاليف الربانية المفصلة في منهاج الله تفصيلاً لا يدع مجالاً أو عذراً لمتفلّت، وهي تكاليف منوطة بكل مسلم، كل قدر وسعه الصادق لا وسعه الكاذب، ومنوطة بالأمة كلها.
فإذا كانت هذه التكاليف تبتدئ بالشهادتين وتمتد إلى أداء الشعائر، ثمَّ إلى دراسة منهاج الله وتدبره وممارسته في الواقع البشري، كما جاء في الحديث الصحيح يرويه عدد من الصحابة: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))، فإنها تمتد كذلك إلى مهمّة رئيسة هي محور المهمّة التي خُلِق الإنسان للوفاء بها، ألا وهي تبليغ رسالة الله ودينه كما أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافَّة وتعهّدهم عليه، والمضيّ في ذلك حتى تكون كلمة الله هي العليا وشرعه هو الأعلى وأمته هي الأعز تحمل هذه الرسالة مع الزمن كله تبليغاً وبياناً وتعهّداً، لتظلَّ الأجيال المؤمنة تتواصل مع الزمن.
فهذه المهمة تبتدئ بالشهادتين لتكونا الإعلان المدوّي مع الزمن كله، والشعائر هي التي تمدُّ المسلم بالطاقة والقوة كما يمد المولّد الكهربائي الأجهزة بالطاقة، ودراسة منهاج الله وتدبره هي الزاد الضروري اللازم على طريق الوفاء بالمهمة، بمهمة البلاغ والبيان والتعهد.
ولكن لو التزم مسلم وحده بكل ذلك، فهل تتحقق المهمة في الأرض؟! كلا! إنها لا تتحقق إلا إذا انطلق يُبَلِّغ ويدعو ويتعهد، يُبَلِّغ الناس كافّة بهذه الرسالة الربانية في جهد تتحقق فيه العبادة والأمانة والخلافة والعمارة، ولندرك خطورة هذا الأمر وعظم المسؤولية فيه، انظر لو أنك كنت تسير على درب أنت تعرفه وأمامك رجل آخر لا يعرف الدرب ولا كيف ينجو من مخاطره، وأمامه هوّة عظيمة فيها نار تلظّى، فلو تابع سيره لهلك، أفتتركه حتى يهلك، أم تسرع لإقناعه بالرجوع وتبيّن له الخطر وتدعوه إلى الابتعاد بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن استجاب لك فذلك، وإن أصرَّ وأبى أتتركه ولو كان ابنك أو أخاك، أتتركه للهلاك أم تأخذه بالقوة لتردّه ما وجدت إلى ذلك سبيلاً، مستعيناً بكل الوسائل المتوافرة؟!
فالبلاغ والبيان والتعهد فرض على كل مسلم وهبه الله الوسع والقدرة على ذلك، ومن حيث الأساس فكل مسلم قادر على ذلك ولو في نطاق أضيق كبيته وأهله وأرحامه وغير ذلك، إنها مسؤولية كل مسلم صدق إيمانه وتزوّد بالزاد الحق، فهي رعاية، وكل مسلم مسؤول عن رعيته: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته))!
وحين كلّف الله عباده بهذه المهمة لم يتركهم سُدى: (أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) [القيامة: 36].
فقد وفّر الله لعباده كافّة الإمكانات التي تعينهم على الوفاء بهذه المهمة حتى تكون كلمة الله هي العليا، وحتى لا يبقى عذر لأحد في أن يتفلّت من هذه المهمة العظيمة الخطيرة في حياة الإنسانية كلها.
فقد أنعم الله على الإنسان بنعم كثيرة أُمِرَ أن يضعها كلَّها في طاعة الله عبادة وأمانة وخلافة وعمارة. أنعم عليه بالفطرة التي فطره عليها، وما أودع فيها من قوى، وأنعم عليه بالتفكير، وبالسمع والبصر والفؤاد، وسخّر له ما في السموات والأرض: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ) [لقمان: 20].
وكذلك الرزق والصحة والمأوى والزوجة والأولاد وكثير غير ذلك: (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم: 34].
وفّر الله لعباده هذه النعم التي لا تُعدُّ ولا تحصى ليوفيَ حق العبادة والأمانة والخلافة والعمارة في الأرض في الحياة الدنيا، ولكن بعض الناس لم يضعوا هذه النعم موضعها في طاعة الله لتسعد البشرية كلها بالأمن والخير، بل وضعوها في معصية الله وفتنة الناس ونشر الفساد في الأرض: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) [إبراهيم: 28-29].
فذلك جزاء من بدَّل نعمة الله ووضعها في غير ما أراد الله، وانظر لو أنَّك عملت في شركة، ثمَّ زودتك بالراتب والسيارة والمنزل والهاتف وغير ذلك، ثمَّ وضعت هذا كله في خدمة شركة أخرى، فماذا تفعل بك الشركة الأولى؟! وكيف تنظر إلى نفسك وقد قمت بهذه الخيانة والخداع.
عن عياض بن حمار عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم)) [تفسير ابن كثير للآية السابقة].
ولتوثيق الأمر، فإن الله - سبحانه وتعالى - جعل الوفاء بهذه المهمة في الحياة الدنيا عهداً مع الله وميثاقاً، على الإنسان أن يوفي به: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 172].
وامتدَّ هذا العهد والميثاق مع جميع الأمم والشعوب وجميع الرسل والأنبياء ومن آمن بهم: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ...)، (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ...)، (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [المائدة: 12، 14، 7].
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران: 81].
وتتوالى الآيات الكريمة في كتاب الله تكشف لنا مدى امتداد هذا العهد والميثاق في حياة الإنسان، تأكيداً وتعظيماً: (...وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة: 40].
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الإَِيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل: 91].
ولخطورة هذه المهمة وأهميتها، ولخطورة العهد والميثاق، فإنَّ الله - سبحانه وتعالى - جعل الوفاء بهذه المهمة يتمُّ من خلال ابتلاء وتمحيص: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2].
(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الكهف: 7].
(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 179].
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 141].
(...وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آل عمران: 154].
(وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 141].
فالدعوة والبلاغ أمر من عند الله وتكليف رباني منه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [النحل: 125].
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].
(وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [العنكبوت: 46].
ونلاحظ هنا أنه مع كل دعوة يعلن المسلم عن دعوته ورسالته: (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) [المائدة: 67].
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104].
وآيات أخرى تكشف مدى الابتلاء والتمحيص، ويمضي الابتلاء والتمحيص في حياة الإنسان على سنن لله ثابتة، وقدر غالب وقضاء نافذ وحكمة بالغة: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [الفتح 23].
لا بدَّ أن تقف أيها المسلم مع نفسك وتستعرض الرحلة الطويلة التي مضيت عليها على سنن الله الثابتة: اذكر وأنتَ في عالم الغيب حين لم تكن شيئاً مذكوراً، ثم كنت نطفة أمشاجاً، ثم مررتَ بأطوار في الرحم، ثم أصبحتَ مولوداً في هذه الحياة الدنيا تمضي برعاية الله وسننه الماضية الثابتة، حتى تغادر الدنيا، فبعثٌ فحساب، ثمَّ خلود في جنَّة أو في نار! تأمَّل هذه الرحلة وما هي الحكمة فيها! وما هي مهمتك في الحياة الدنيا التي يدور عليها الحساب في الآخرة؟!
إنَّ مهمتك هذه في الحياة الدنيا أيها المسلم تهدف لأن تقوم الأمة المسلمة الواحدة التي أمر الله بقيامها لتكون خير أمة أُخْرجت للناس، ثمَّ لتمضي هذه الأمة كلها بهذه المهمة لتغيير واقع الإنسان على الأرض، واقع البشرية، أنت أيها المسلم نقطة الانطلاق إذا صدقت الله إيماناً وتوحيداً، وتزوّدت علماً حقاً من منهاج الله، ووعيت الواقع من خلال منهاج الله، ليكون هذا هو زادَك على الطريق وأنتَ تُوفي بالمهمة، الزاد الضروري:
- صفاء الإيمان والتوحيد وصدقه.
- إخلاص النيَّة الواعية لله، النيَّة التي تحدِّد الهدف والدرب الذي يوصل إلى الهدف والوسائل والأساليب، بغير ذلك لا تصدق النيّة.
- صدق العلم بمنهاج الله.
- وعي الواقع من خلال منهاج الله.
- سلامة الممارسة الإيمانية في الواقع.
لقد بيّن الله لنا هذا كله بلسان عربي مبين، وبيّن لنا الطريق والصراط المستقيم، وعلى الطريق سيكون الابتلاء والتمحيص، فلا بدَّ من أن تحاسب نفسك أيها المسلم بصورة مستمرّة وأن تجاهدها حتى تستقيم على أمر الله، وذلك قوله - سبحانه وتعالى -: (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت: 6].
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69 ].
وكذلك الحديث الذي يرويه فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((المجاهد من جاهد نفسه في الله)) [أخرجه الترمذي وابن حبان].
وكان من فضل الله - سبحانه وتعالى - أن جعل صراطه مستقيماً لا عوج فيه حتى لا يضلّ عنه أحد، وجعله واحداً حتى لا يُخْتلف عليه، إنه صراط مستقيم تمتدُّ عليه التكاليف الربانية معالمَ تضيء الدرب، ويجمع المؤمنين المتقين أمة وحدة، فلا ظلمة فيه أمام المؤمن، إِنّه يُشْرق بالحق لجميع المؤمنين المتقين صفاً واحداً وأمة واحدة، يلتزمون صفاء الإيمان والتوحيد ومنهاج الله - قرآناً وسنَّة ولغة عربية -، لا يتفرّقون شيعاً وأحزاباً، يمضون إلى الهدف الأكبر والأسمى -الدار الآخرة والجنة ورضوان الله-.
والمؤمن يمضي يبلّغ رسالة الله إلى الناس كافّة يقول الحق ويبلّغه بكل أسلوب مجدٍ حسب الواقع الذي هو فيه، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضلُّ من يشاء على حكمة بالغة عادلة، وجعل الله - سبحانه وتعالى - بقدره وقضائه دائرة يكون الإنسان فيها مسؤولاً عن نيته وعمله ومحاسباً عليه، وعلى الإنسان أن يتخذ القرار بنفسه حين تَبْلُغُه الرسالة، أيؤمن أم يكفر، وعليه أن يتحمّل مسؤولية قراره. إذن كلفه الله بالتفكير واتخاذ القرار وتحمل مسؤولية قراره ولكل قرار نتيجة: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف: 29-30].
والتفكير الذي يأمرنا الله باتباعه هو التفكير الإيماني الذي يتبع نهجاً يقود إلى الإيمان، ولقد وفّر الله برحمته للناس كل وسائل النهج الإيماني للتفكير: في فطرته التي فطره عليها، وفي الآيات المبثوثة في السموات والأرض وما بينهما، وفي الإنسان نفسه: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم: 30].
(قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس: 101].
(وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) [الذاريات: 20-23].
فانهض أيها المسلم لمهمتك التي ستحاسَب عليها، واصدق الله في عملك كله.